فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}.
{اكتب} معناه أثبت واقض، والكتب مستعمل في ما يخلد، و{حسنة} لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها و{هُدنا} بضم الهاء معناه تبنا، وقرأ أبو وجزة {هِدنا} بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك، وهو مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك، وقوله تعالى: {قال عذابي أصيب به من أشاء} الآية، قال الله عز وجل: إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند {عذابي أصيب به من أشاء} وقرأ الحسنَ وطاوس وعمرو بن فائد {من أساء} من الإساءة أي من عمل غير صالح، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين: أحدهما إنفاذ الوعيد، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القرأة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة، وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان: لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر.
ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها {وسعت كل شيء} فقال بعض العلماء: هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله: {كل شيء} والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم، وقال بعضهم: هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية، وقالت فرقة: قوله: {ورحمتي} يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة، وقال نوف البكالي: إن إبليس لما سمع قول الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} طمع في رحمة الله فلما سمع {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة} يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية، وقال نحوه قتادة، وقوله: {فسأكتبها} أي أقدرها وأقضيها، وقال نوف البكالي: إن موسى عليه السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال نوف البكالي: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم، وقوله: {يتقون} في هذه الآية قالت فرقة: معناه يتقون الشرك، وقالت فرقة: يتقون المعاصي.
قال القاضي أبو محمد: ومن قال: الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله: {ويؤتون الزكاة}، ومن قال المعاصي ولابد خرج إلى قول المعتزلة، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولابد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى، ومعنى: {يتقون} يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجابًا، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها، وقوله: {ويؤتون الزكاة} الظاهر من قوله: {يؤتون} أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفًا لها وجعلها مثالًا لجميع الطاعات، وقال ابن عباس فيما روي عنه: ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا} أي: حقق لنا وأوجب {في هذه الدنيا حسنة} وهي: الأعمال الصالحة {وفي الآخرة} المغفرة والجنة {إنا هُدْنا إليك} أي: تبنا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والضحاك، والسدي.
وقال ابن قتيبة: ومنه {الذين هادوا} [البقرة: 62] كأنهم رجعوا من شيء إلى شيء.
وقرأ أبو وجزة السعدي: {إنا هِدنا} بكسر الهاء.
قال ابن الأنباري: المعنى: لا نتغيَّر؛ يقال هاد يهود ويهيد.
قوله تعالى: {قال عذابي أُصيبُ به من أشاء} وقرأ الحسن البصري، والأعمش وأبو العالية: {من أساء} بسين غير معجمة مع النصب.
قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} في هذا الكلام أربعة اقوال.
أحدها: أن مخرجه عام، ومعناه خاص، وتأويله: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} قاله ابن عباس.
والثاني: أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا، والخصوص في الآخرة، وتأويلها: ورحمتي وسعت كل شيء في الدنيا، البرَّ والفاجر، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة، قاله الحسن، وقتادة.
فعلى هذا، معنى الرحمة في الدنيا للكافر: أنه يُرزق ويُدفع عنه، كقوله في حق قارون: {وأحسنْ كما أحسن إليك} [القصص: 77].
والثالث: أن الرحمة: التوبة، فهي على العموم، قاله ابن زيد.
والرابع: أن الرحمة تَسَع كل الخلق، إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدِّر دخولهم فيها لوسعتهم، قاله ابن الانباري.
قال الزجاج: وسعت كل شيء في الدنيا.
{فسأكتبها للذين يتقون} في الآخرة.
قال المفسرون: معنى {فسأكتبها}؛ فسأوجبها.
وفي الذين يتقون قولان:
أحدهما: أنهم المتقون للشرك، قاله ابن عباس.
والثاني: للمعاصي، قاله قتادة.
وفي قوله: {ويؤتون الزكاة} قولان:
أحدهما: أنها زكاة الأموال، قاله الجمهور.
والثاني: أن المراد بها: طاعة الله ورسوله، قاله ابن عباس، والحسن، ذهبا إلى أنها العمل بما يزكِّي النفس ويطهِّرها.
وقال ابن عباس، وقتادة: لما نزلت: {ورحمتي وسعت كل شيء} قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله من إبليس، فقال: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيتنا يؤمنون} فقالت اليهود: نحن نتَّقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها الله منهم، وجعلها لهذه الأمة، فقال: {الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} أي وفّقنا للأعمال الصالحة التي تكتب لنا بها الحسنات.
{وَفِي الآخرة} أي جزاء عليها.
{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تُبْنا، قاله مجاهد وأبو العالية وقَتادة.
والهَوْد: التوبة؛ وقد تقدّم في البقرة.
قوله تعالى: {قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} أي المستحقّين له، أي هذه الرجفة والصاعقة عذاب مني أصيب به من أشاء.
وقيل: المعنى {من أشاء} أي من أشاء أن أضلّه.
قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} عموم، أي لا نهاية لها، أي من دخل فيها لم تعجز عنه.
وقيل: وسِعت كل شيء من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها.
قال بعض المفسرين: طمِع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس، فقال: أنا شيء؛ فقال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون؛ فقال الله تعالى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي} الآية.
فخرجت الآية عن العموم، والحمد لله.
روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} يعني قال موسى في دعائه واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي واجعلنا ممن كتبت له حسنة وهي ثواب الأعمال الصالحة في الآخرة أي واكتب لنا في الآخرة مغفرة لذنوبنا {إنا هدنا إليك} قال ابن عباس معناه إنّا تبنا إليك، وهذا قول جميع المفسرين وأصل الهود الرجوع برفق قال بعضهم وبه سميت اليهود وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم فلما نسخت شريعتهم صار اسم ذم وهو لازم لهم {قال} يعني قال الله لموسى {عذابي أصيب به من أشاء} يعني من خلقي وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي وعبيدي ومن تصرف في خالص حقه فليس لأحد عليه اعتراض {ورحمتي وسعت كل شيء} يعني أن رحمته سبحانه وتعالى عمَّت خلقه كلهم، وقال بعضهم: هذا من العام أريد به الخاص فرحمة الله عمت البر والفاجر في الدنيا وهي للمؤمنين لسعة في الآخرة وقيل هي للمؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة ولكن الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن لسعة رحمة الله له فإذا كان يوم القيامة وجبت للمؤمنين خاصة قال جماعة من المفسرين لما نزلت ورحمتي وسعت كل شيء تطاول إبليس إليها وقال أنا من ذلك الشيء فنزعها الله تعالى من إبليس فقال تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} أيس إبليس منها، وقالت اليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله وأثبتها لهذه الأمة فقال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} الآية وقال نوف الكبالي لما اختار موسى من قومه سبعين رجلًا قال الله تعالى لموسى اجعل لك الأرض مسجدًا وطهورًا تصلون حيث أدركتكم الصلاة لا عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم واجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم يقرؤها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير فقال موسى ذلك لقومه فقالوا لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ولا نستطيع أن نقرأ التوراة على ظهر قلوبنا ولا نريد أن نقرأها إلا نظرًا قال الله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} إلى قوله: {المفلحون} فجعلها الله تعالى لهذه الأمة، فقال موسى: رب اجعلني نبيهم، قال: نبيهم منهم، قال: اجعلني منهم قال إنك لن تدركهم قال موسى: يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} فرضي موسى، أما التفسير فقوله الذين يتقون يعني الشرك وسائر ما نهوا عنه لأن جميع التكاليف محصورة في نوعين:
الأول: التروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها والاحتراز عنها ولا يقربها وإليه الإشارة بقوله تعالى: {للذين يتقون} والثاني الأفعال المأمور بها وتلك الأعمال بدنية وقلبية أما البدنية فإنها الإشارة بقوله ويؤتون الزكاة وهذه الآية وإن كانت في حق المال لكن يختص بالبدن بإخراجها والأعمال القلبية كالإيمان والمعرفة وإليها الإشارة بقوله تعالى: {والذين هم بآياتنا يؤمنون}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك} أي وأثبت لنا عاقبةً وحياة طيبة أو عملًا صالحًا يستعقب ثناء حسنًا في الدنيا وفي الآخرة الجنة والرؤية والثواب على حسنة الدنيا والأجود حمل الحسنة على ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها {وإنا هدنا} تعليل لطلب الغفران والحسنة وكتب الحسنة أي تبنا إليك قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبو العالية وقتادة والضحاك والسدّي: من هاد يهود، وقال ابن بحر: تقرّ بالتوبة، وقيل: ملنا.
ومنه قول الشاعر:
قد علمت سلمى وجاراتها ** أني من الله لها هائد

أي مائل، وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك أي حرّكنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك فيكون الضمير فاعلًا ويحتمل أن يكون مفعولًا لم يسمَّ فاعله أي حركنا إليك وأملنا والضم في {هدنا} يحتملهما وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم وأنهم تائبون عبيد له خاضعون فناسب عزّ الرّبوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرّحمة والكتب.